الكورد الفيلية ضحية حكم عنصري وفاشي ..!

هادي فريد التكريتي

في مسلخ قصر النهاية ، وبعد أن اعتلى الفاشيون سلطة 8 شباط في العام 1963، تقدم مني صبي ، في الرابعة عشرة من عمره ، على أكثر تقدير ، معصوب الرأس ، بشاش طبي ، وآثار تعذيب على وجهه ، ودماء متيبسة على ملابسه ، وسألني ألست أنت فلانا ، قلت بلى ، ولكن من أنت ، قال أنا ، جيرانكم " ابن ناظم " ، قلت وما أتى بك إلى هنا ؟ أجابني بزهو وخيلاء ، أنا وصديق لي بعد أن رأينا جريدة الحزب ( يقصد طريق الشعب ، جريدة الحزب الشيوعي العراقي ) قد تعطلت بعد نجاح مؤامرة شباط ، وما عادت للصدور سرأ" قمنا بتحريرها وإصدارها ، وأثناء التوزيع ألقي القبض علينا .. .
تذكرت أبو ناظم جارنا الكوردي ـ الفيلي الطيب ، حيث ارتبطت أسرتانا بعلاقة جيرة ، صادقة وحميمة ، كان الهم العراقي هو الهم المشترك بين العائلتين ، ولم يدر بخلد أفرادهما ، الكبار أو الصغار ، أن يسألوا بعضهما ، إن كانوا شيعة أم سنة ، أو من أي قومية أو دين ، فهذا أمر لا يغير من إقامة علاقات محبة وود ، بين المواطنين العراقيين ، مبنية على احترام متبادل ، أساسه الأخلاق الطيبة والسمعة الحسنة .

الكورد الفيلية من الشرائح الفاعلة والمهمة في المجتمع العراقي ، عريقة في تواجدها على الأرض العراقية منذ أقدم العصور ، ولا يمكنني إضافة شيء ذي أهمية تذكر ، في هذا المجال ، لما تطرق إليه وأغناه بحثا الكثير من المؤرخين والكتاب العراقيين والأجانب ، متناولين أصلهم و" فصلهم " والأرض التي ولدوا عليها ، أو جاءوا منها ، قديما ، وسكناهم وامتداداتهم حديثا ، والأدوار التي لعبوها في المجتمعات التي عاشوا فيها ، ومن يريد الاستزادة سيجد الشيء الكثير عند من كتبوا .

ما يهمني في الظرف الراهن ، أن أساهم في بلورة وتبيان حقيقة بعض هذا الحيف والظلم ، الذي وقع ويقع على هذه الشريحة العراقية والوطنية ، ربما أكثر من غيرها من شرائح المجتمع ، البعض يرد أسباب الجرائم والأنتهاكات التي وقعت على هذه الشريحة من قبل الحكم القومي ـ الفاشي ، على أساس التمييز الطائفي ، على اعتبار أنهم شيعة علي بن أبي طالب وولاؤهم لأهل بيته ، وهذا الأمر ليس ما يورده الإسلاميون الطائفيون ، بعد أن سيطر القوميون والعنصريون الفاشيون على الحكم ، بل شاركهم فيه ، حديثا ، البعض من الكتاب التقدميين ، والذين كانوا إلى عهد قريب ممن يؤمنون بالفكر الماركسي ، والمنتمين للحزب الشيوعي العراقي خصوصا ، وبالطبع لا يمكن لهؤلاء أن يقدموا دليلا منطقيا وعقلانيا على هذه الدعوى ، على الرغم من أن هؤلاء الكتاب ـ التقدميين ـ يضعون الأسباب السياسية ، أحيانا ، نتيجة لحضور الحقيقة في أذهانهم ، وراء هذه الاضطهاد ، وهو باعتقادي سبب مهم وأساسي ، في الكثير من معاناة الكورد الفيلية ، من قتل وتهجير وسلب لكل ممتلكاتهم وحقوقهم .

المتتبع للوضع السياسي والاجتماعي العراقي منذ تكشيل الحكم الوطني الملكي ، وحتى سقوط جمهورية تموز ، يجد أن الكورد الفيلية ، كانوا يتمتعون بحريات عامة وخاصة ، حالهم حال بقية قطاعات المجتمع ، في تشكيل النوادي الرياضية والجمعيات ، وكان لهم ظهور ملحوظ على ميدان الحركة السياسية العراقية ، الوطنية الديموقراطية ، والقومية ، كقادة وكأعضاء ، كما أن الكثير من مثقفيهم وكتابهم ، يمارسون إبداعهم لخدمة القضية الوطنية ، ونتيجة لهذا الواقع دخل الكثير منهم السجون والمواقف العراقية ، ليس على أساس معتقد طائفي ـ شيعي ، ولكن على أساس معتقداتهم السياسية وتوجهاتهم الفكريه التقدمية والوطنية ، وحتى من حوكموا على انتمائاتهم للحزب الشيوعي ، أو للأحزاب القومية الكوردية ، لم تصدر الأحكام عليهم كونهم كوردا ، بل كمواطنين عراقيين ، لحساسية القضية الكوردية في المجتمع العراقي آنذاك ، ولعدم تكوين انطباع عن الدولة من أنها تمارس قوانين عنصرية على مواطنيها .

الحكم القومي الفاشي ـ البعثي ، ومبادئ حزب البعث قومية وعنصرية بحتة ، وما كان يضمره من كره وحقد على الكورد أمر مسلم به ولا يحتاج لبرهان أو دليل ، كما هو عداؤه للحزب الشيوعي ، المتبني لكل الحلول والشعارات القومية الكوردية ، وبما ان الكورد الفيلية هم كورد وشيوعيون في وقت واحد ، ومواقفهم من مقاومة 8 شباط لا يمكن أن ُتنسى ، على الضد من الفتاوى التي مارستها بعض من أقسام المؤسسة الطائفية لصالح الفاشست ، وبالضد من مشاعر ووطنية هذه الشريحة ، كل هذه أمور لا يمكن أن تتجاوزها العقلية القومية ـ العنصرية ـ الفاشية ، ومن هنا نتبين أن الإضطهاد والقمع والقتل والتهجير له أسبابه ودوافعه السياسية ، المبررة وفق منظور عنصري ـ فاشي ، وليس على أساس طائفي ، يستمد من قوانين الجنسية العنصرية سندا" قانونيا" التجأ إليه ، والذي اتخذه ذريعة للتهجير ، من منطلقات عنصرية ، مستندا على التمييز بين : التبعية الإيرانية ، وتفسيرها بأنها أجنبية ، والتبعية العثمانية ، بأنها وطنية سواء أكانت عربية أم كوردية ..!

واقع الحال يؤيد الرأي القائل أن أسباب التهجير ليست طائفية ، والأسباب كثيرة : الأول لم يشمل التهجير العناصر الحزبية المنتمية لحزب البعث ، فكثير من الكورد الفيلية الشيعة الأعضاء ظلوا يمارسون مسؤلياتهم في مؤسسات الدولة والحكم ، على الرغم من أن أشقاءهم واخوتهم قد شملهم التهجير ، لكونهم إما مستقلين سياسيا أو منتمين لأحزاب وطنية معادية للنظام ، السبب الثاني : تهجير النساء والأطفال وكبار السن قسرا والقائهم على الحدود ، مع الاحتفاظ بالشباب ، هذا الإجراء اقتضته تداعيات نية التفكير بالحرب ، وإلقاء تبعة مشاكلها على إيران ، وتعقيد مجمل الأوضاع التي تعاني منها الثورة الإسلامية.. السبب الثالث ، اقتصادي صرف ، بالاستيلاء على الأموال التجارية والمؤسسات الإقتصادية ، وكافة ممتلكات المهجرين ، لدعم المجهود الحربي .

قوى الإسلام الطائفي ، إتخذت من قضية الكورد الفيلية والمحنة التي هم فيها ورقة للمتجارة ، ولابتزاز العواطف الطائفية ، طيلة صعود الفاشية إلى الحكم ، وبعد سقوط النظام ، كثفت من استثمار محنتهم التي هم فيها ، للحصول على أصواتهم في الانتخابات ، وبعد أن فازت بأصواتهم وتربعت على دست الحكم والمسؤولية ، نسيت كل وعودها وعهودها لهم ، ولا زالت مشاكلهم كما هي ، فلا حقوقهم في الجنسية قد عادت إليهم أو حصلوا عليها ، ولا الأموال والممتلكات قد ردت لهم ، ولا أحد من الحكام قد أجهد نفسه ، وقطع بعضا من وقته للبحث عن فلذات أكبادهم التي إحتجزها البعث ، وغيب قبورها ، ولم يستدل دليل ليدلهم على شاهدات قبور شهدائهم .! السلطة بيد شيعة علي الآن ، الذين يدعون أن الكورد الفيلية منهم ، دون بقية الشرائح ، فماذا ينتظرون ، فهل ُُحلت مشاكل هذه الشريحة التي لا يعرفها الحكام إلا وقت حاجتهم إليهم ؟ وأولئك الذين لازالوا يقبعون في معسكرات الحكم الإسلامي ـ الشيعي الإيراني ، الذين سمعنا صرخات استغاثتهم في الشتاء القارص ، دون منقذ أو مساعد ، هل لازالوا محاصرين تحت خيام لا تقي حرارة شمس ولا تحول دون عصف ريح ؟ وهل تم الاعتراف بهويتهم الوطنية ليعودوا إلى موطنهم ، الذي سقوه بدموعهم ودمائهم ، وبنوه لبنة فوق أخرى ، وفي نهاية المطاف يموتون في خيام المنافي ، وعيونهم ترقب طريق عودتهم الذي أغلقه حكامهم الطائفيون بوجوههم . هل ُتصدق جماهير الكورد الفيلية في انتخابات ثالثة أن الطائفية هي الحل ؟ أم انهم جربوها في معسكرات لجوء الدولة الإسلامية ، ولم يجدوا عندها سوى الإذلال والإهانة ، وعند الحكام الذين منحوهم ثقتهم ، غير بيعهم للمليشيات المتناحرة على سرقة خيرات البلد ولتسليم الدولة لولاية الفقيه ..! ليس لي غير سؤال أهمس به ، بأذن كل الضحايا من الكورد الفيلية ، هل يلدغ المرء من جحر مرتين ؟؟؟! ولست مستعجلا لسمع الجواب ، أنتظره بعد الإنتخابات القادمة ..إن كتب الله لي ولكم العمر المديد..!


هادي فريد التكريتي
عضو اتحاد الكتاب العراقيين في السويد